جينيات ـ ربما أتاحت الدقائق الأولي للأسيرة أو ربما تكون الشهيدة - "كاميليا شحاتة" - زوجة الكاهن التى أسلمت- التأمل في الزنزانة الرطبة ذات الضوء الخافت الذى يبعث الرعب في نفس ساكنها، بعد أن جرها الزبانية إليها جراً، موثقة في قيدها وزجوا بها في غياهب جوفها العطن البارد، وقد كانت قبل أيام فقط في طريقها لتوثيق إسلامها في بلد الأزهر والألف مئذنة..!
وربما بعد ان اوصدوا الباب عليها غالبت دموع ضعفها وهوانها من مصير مجهول وقد احاط بها الخوف من كل جانب ، وهي مع ذلك تحاول طرد وساوس الشيطان الذى جاء يساومها على إيمانها، وتردد في وجهه الشهادتين وآية الكرسي مراراً، وبعدها مدت كفها تتحسس الجدران التى نخرتها آهات المعذبين قبلها، تلك الجدران الأربعة التى اعتصرتها بعد أن دفعوها اليها دفعاً عبر قبو ضيق، وراعها أنها وجدت سلاسل في نهايتها حلقات حديدية من تلك التى يحكي عنها فقط في محاكم التفتيش في زمن العصور الوسطى.
وقد تكون "كاميليا" تبسمت وقد طاف بخيالها مشهد الشهيدة "سمية" زوجة الشهيد ياسر وأم الصحابي عمار رضى الله عنهم، وقد استئسدت بعقيدتها في وجه الطغاة الكافرين ولم تأبه بتهديدهم ولا بوعيدهم، حتى بعد ان احكموا وثاق يديها وقدميها بالأوتاد في الأرض ، وألهبوا جسدها ضربا بالسياط التى لا يقوى على تحمل عذاباتها أشجع الرجال وأشدهم بأساً وصبراً، وحتى بعد ان تركوها ساعات بلا رحمة تحت وهج الشمس تأكل من لحمها وترتوي من دمائها، وحتى بعد أن استل عدو الله أبو جهل حربته وصوبها إليها وهزها قبل أن يطلقها غادرة تقطع الروح في جسدها..ومع هذا الطغيان والجبروت ظلت تردد في صفعات متتالية على وجه الباطل.. لا اله الا الله..محمد رسول الله..حتى استكان الجسد وتحررت الروح من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة..ومن ظلم الناس إلى جنة عرضها السموات والأرض.
إنها "كاميليا" أختكم يا أيها الثمانين مليون مسلم، جائتكم قابضة على دينها وجمر محنتها معاً، ودمعاتها تعطر حجابها الذى أحاط بجسدها الطاهر وربط على قلبها النقي، جائتكم شاهدة لله بالحمد على نعمة الإسلام قبل أن ينطق بها لسانها ، وتلوذ بنخوتكم التى ظنت أنها قد وجدتها، وتحتمي برجولتكم التى ظنت أنكم لم تقايضوا عليها خبزاً على أرصفة الصمت خوفاً وجبناً، جائتكم وهي قابضة بكلتا يديها المرتعشة على أوراق مصحفها المبلل بدموع تهجدها ترتل والعبرات تخنقها فرحاً بالنجاة..
"قل هو الله أحد..
الله الصمد..
لم يلد..
ولم يولد..
ولم يكن له كفوا احد.."
وربما هي الأن بالكاد تسمع همس الزبانية على باب زنزانتها الرطبة بعد حفلة من التعذيب ، يتهامسون في قلق من وقفة بعضكم أمام مسجد النور، وربما استطاعت ان تميز بضع همهمات خائفة مرتجفة بأنكم تستحثون رجولة ونخوة الثمانين مليونا في وقفات أخرى ضد طغيان الشيطان الأكبر، هذه الملايين التى شغلتها حلقات المسلسلات بالليل عن حلقات التعذيب القاسية التى تتجرعها "كاميليا" في سحورها وإفطارها.
وبينما الثمانين مليونا برجالهم ونسائهم وحتى اطفالهم يهتفون من قلوبهم وحناجرهم أمام مباراة لكرة القدم، ربما كانت "كاميليا" في نفس الوقت تأن من فرط الألم معلقة كالذبيحة وجروحها من التعذيب تذرف دماً، ورغم ذلك تهتف بصوت واهن يخرج خافتا متقطعاً من حلقها الذى تشقق وقطعه العطش..
"قل هو الله أحد..
الله الصمد..
لم يلد..
ولم يولد..
ولم يكن له كفوا احد.."
وبينما أنتم يا أيها الثمانيين مليونا يتغشاكم الأمان في بيوتكم وتتلذذون بطعام افطاركم وسحوركم على موائد مسلسلاتكم، تذكروا أن لكم روحا مؤمنة تكاد تغادر جسد أختاً مؤمنة هدته رحى التعذيب ، تلك الرحي التى تطحن بين حجر صمتكم وحجر طغيان الشيطان الأكبر جسد "كاميليا"؛ فتحيله طحينا من الشهادة ممزوجا بالدم..تطوعه أيادي الزبانية وتأهله ليكون رغيفاً..يتقوت به الشيطان الأكبر الجالس فوق عرشه يترقب ترويع و إرهاب من تطوع له نفسه أن يتحرر من بين مخالبه..فراراً إلي الله..والله غالب على امره ولكن الشياطين لا يعلمون..!