قراءة تعليقات القراء مجهدة ذهنيا ونفسيا، لابد أن أعترف بذلك. لماذا؟ عندى سببان على الأقل: الأول أن الطرفين لا يعرفان بعضهما البعض شخصيا ومن ثم ثقافيا. ويملك القارئ الكريم أن ينعت الكاتب بما يشاء من صفات سلبية أو إيجابية دون أن يحتاج إلى أن يقدم الدليل على ما وصل له من استنتاجات. والسبب الثانى، أننا أمة مأزومة؛ وفى وقت الأزمات تضيع البوصلة وتتعارض ملامح خرائط الطريق وتتفاوت التوقعات والأهداف. وعلى هذا قد يكون من المفيد، من آن لآخر أن يقدم الإنسان نفسه للقراء الكرام عسى أن يعرفوه أكثر وبالتالى من الممكن أن يكون الحوار بينهم أكثر فائدة. وهذا ما سأحاوله فى هذا المقال الذى سيكون فى معظمه عن المنهج فى الكتابة وإن كان بعضه عن كاتب المقال ذاته.
أعزائى القراء، أقدم لكم كاتب هذا المقال بنفس الطريقة التى كنت أقدم بها نفسى لكل من يعنيهم أمرى لأكثر من 15 سنة: أنا مصرى الجنسية، عربى اللغة، مسلم الديانة، أبحث عن الحقيقة بلا تحيزات أيديولوجية وأينما وجدتها فأعتبر نفسى أولى بها. ورغما عن التزامى بالحقيقة فأنا لا أعد بها القراء الكرام، لأننى اكتشفت «حقائق» ثم يتبين لى بعد فترة من الدرس والتفكير والنقاش أنها ليست كذلك. وعليه فأنا ملتزم مع القراء الكرام بالأمانة التى تقتضى منى أن أنقل لهم ما أعلم أننى أعلم وما أعلم أننى لا أعلم وما أعلم أننى كنت مخطأ فيه. وقد وضع الرسول الكريم أسس هذا المنهج فى الأمانة بقوله: «لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه».
هذا عن الكاتب، أما عن المنهج فنحن بحاجة لأن نعود إلى بعض الأصول. أولا من الرائع أن نحرض أنفسنا على التفكير الخلاق، فمشاكل المجتمعات المعاصرة ليست بسيطة أو فطرية وإنما هى شديدة التعقيد بما يتطلب تفكيرا جدليا مركبا يأخذ فى الاعتبار أسئلة من قبيل: من نحن؟ وماذا نملك ولا يملكه غيرنا؟ وما الذى يملكه غيرنا ولا نملكه؟ وما هى تكلفة الفرصة البديلة إن تبنينا ما يملكه غيرنا؟ هل يمكن الجمع بينهما؟ مثلا هل نلحق أولادنا بمدارس أجنبية لا تهتم باللغة العربية؟ وماذا عن تشويه الهوية الوطنية؟
وكى نفكر معا، فلابد من التدرب على الاختلاف فى الرأى. ولنتخيل معا هرما له قاعدة وله رأس وبينهما أدوار من البدائل المتاحة لنا.
فأولا فى قاع الهرم هناك ما يمكن تسميته «سب الشخص» (name-calling) وهو أدنى مراتب الاختلاف ومع الأسف الأكثر شيوعا، وربما يكون هو السبب المباشر فى أن اضطرت إدارة جريدة «الشروق» أن تضع قيودا على نشر التعليقات لا سيما مع تحول بعد السادة المعلقين إلى سب بعضهم البعض بألفاظ لا تليق.
الطابق الأعلى مباشرة فى هرم الاختلاف هو «مهاجمة الشخص» (ad hominem) ليس بالسب ولكن بتوجيه انتقادات ليس لها علاقة بجوهر الفكرة المطروحة، فننشغل بالأشخاص والأشياء أكثر من مضمون ما يقدمونه من أفكار وتحليل للأحداث. فيُتهم كاتب ما بأنه من «دراويش عبدالناصر» لأنه ينتقد أوضاع المدارس فى مصر الآن مقارنة بما كانت عليه فى عهد عبدالناصر أو أن كاتبا آخر «من محاسيب إيران» لأنه يوضح أن إيران نجحت فيما أخفقت فيه مصر من تحقيق معدلات أداء اقتصادى وعسكرى وتكنولوجى كانت جزءا من حلم عندنا وانتهى. ومع ذلك من الممكن أن يكون انتقاد الكاتب مبررا إذا كان مبنيا على أسباب (حتى لو اختلفنا معها)، كانتقاد من يدافع عن حزب أو جماعة بانتقائية شديدة للمعلومات أو بتزييفها. ولكن هنا لا نقول إن هذا الأسلوب هو «مهاجمة للشخص» وإنما هو انتقاد لمصداقيته أو منهجه بأدلة مرتبطة بالقضية موضع النقاش.
الطابق الثالث فى هرم الاختلاف هو «مناقشة التوجه العام» (Responding to tone) وهو أقل النقاشات الجادة سوءا. إذن نحن بدأنا نناقش نقاشا علميا ولكن فى أدنى مستوياته لأننا بدأنا نناقش الموضوع وليس كاتب الموضوع. وهنا يكون الانتقاد موجها للتوجه العام للموضوع دون تحديد أين مواضع الخلل فيها بشكل مباشر. فكأنك ترسم دائرة كبيرة على مقال وتقول هذا مقال: «متأسلم» أو «تجارة بالدين» أو أن المقال من «أوهام الليبراليين المتغربين.» هذا توجه عام يمكن أن يكون مرفوضا عند شخص ما، لكن ما الفائدة التى عادت على القارئ أو المستمع ما لم يقدم الرافض أسبابا واضحة للرفض بحيث تكون قابلة للنقاش؟
الطابق الرابع فى هرم الاختلاف هو «المعارضة» (Opposition) وهنا نكون بدأنا فى النقاش الجاد فعلا. فيقدم الكاتب ما يفيد اعتراضه على ما يقرأ أو يسمع مع بعض الأدلة هنا أو هناك بما يثبت وجهة نظره، وقد تكون المعارضة للفكرة المركزية (central point) أو لقضية هامشية أو استشهاد يراه المعترض فى غير محله لكن مع الموافقة على الفكرة المركزية. وسأقدم مثالا لقارئ كريم عارض مقالا لى (25 سبتمبر 2010) بطريقة أحسبها سليمة حيث قال: «كثير من المصريين الذين يعيشون فى بلاد المهجر... قد أصيبوا بداء المغالاة فى نقد الذات والوصول أحيانا بهذه الحالة من النقد إلى الجلد وانعدام الثقة التامة فى كل ما هو مصرى وهذا ما مارسه اليوم فى مقالته أ.معتز بالله فلقد أوجز واختصر 5000 عام حضارة المصريين القدماء فى أحكام عامة كقوله (وكان المصرى تابعا غير ذى إرادة مستقلة؛...الخ) ناسيا ومتناسيا أن الإبداع والعبقرية لا يصنعان حضارة متقدمة ذات أركان ثابتة إلا إذا توافر لأفرادها إرادة مستقلة وقناعة إيمانية عالية». إذن أحسن أخى الكريم فى عرض فكرته بما أوضح سبب اعتراضه على ما جاء فى المقال، وإن كنت أختلف معه فى استنتاجاته».
الطابق الخامس فى هرم الاختلاف يتمثل فى تقديم طرح بديل (Counterargument)، وبالتالى هو اعتراض واضح على المقولة المركزية ومعها أسباب الرفض ثم طرح فكرة مغايرة تماما للفكرة الأصلية. وقد عقب أحد الفضلاء على نفس المقال بطرح بديل حين قال: «وأخطر ما فى المقال هو أنه يقفز فوق الممكن بمعنى أنه يقول إما ديمقراطية وليبرالية كاملة أو استبداد كامل مطلق ولا تدرج بينهما.. فمثلا لماذا لا يجرب الحزب الوطنى فكرة طرح بدائل من داخله ويترك للناس الاختيار من بينها.... كفكرة الانتخابات الأولية فى أمريكا؟.. وكخطوة نحو الديمقراطية ولكن النظام لا يريد مجرد فتح نافذة للحرية وليس العيب فى الشعب». والحقيقة أن طرح القارئ الكريم فيه الكثير مما يستحق النقاش من ناحية المضمون، ولكن الأهم أنه نفذ إلى جوهر الفكرة ونقضها ثم قدم طرحا بديلا عنها. وهذا هو جوهر الحوار الخلاق.
والطابق السادس والأخير أن يكون كل ما نكتبه إما عليه دليل أو على الأقل يمكن إثباته (provable) أو يمكن دحضه (falsifiable) بالرجوع إلى مصادر معلومات وأفكار أو خبرات دول أو أشخاص آخرين حتى يمكن القياس عليها والاستفادة منها.
هل تعلمون حضراتكم أن كل مجتمع بشرى احتاج قرونا كى ينتقل معظم أفراده من طابق لآخر؟ ولنأخذ مثالا بالعقل الأوروبى حيث بذل فلاسفة اليونان جهدا هائلا لإثبات فكرة الذات العاقلة فى مواجهة الأساطير الموروثة وحكم الكهنة، واحتاج العقل الغربى قرونا كى ينتقل من الذات الاستنباطية (سانت أوجستين) إلى الاستقرائية (بيكون)، ثم إلى الذات المفكرة والمتشككة (ديكارت)، التى لها حقوق غير قابلة للمساومة والانتقاص (كانط).
آمل لـ«الشروق» وأخواتها أن تسهم فى الانتقال بنا جميعا من طابق لآخر، فالرحلة طويلة ولكن الزاد وفير بإذن الله.