عندما يسافر الحلم في شرايين الشعراء، ويصبح الأقصى هو الأمل والألم والبسمة والوجع، تصطف الحناجر تطلق عبر المدائن حنينها بأشعار لا تهدأ ولا تنحني في زمن الانكسار فكيف في أيام الانتصار تلك التي نشاهد شيئاً منها في انتفاضة الأقصى المبارك، هذه الانتفاضة التي أسرجت قناديلها بدماء الشهداء فأضاءت قلوب المتعطشين إلى زهرةالمدائن وقبلة الشعراء. لقد مثَّل المسجد الأقصى - ولا يزال - لدى شعراء فلسطين رمزاً لا يمكن التخلي عنه، فهذا شهيد جبل النار عبد الرحيم محمود لا يتوانى عن إطلاق صرخات التحذير مما يحيق بالمسجد الأقصى من مخاطر وذلك عند زيارة الأمير سعود بن عبد العزيز إلى فلسطين في مطلع القرن الماضي: يا ذا الأميرِ أمامَ عينك شاعرٌ...ضُمَّت على الشكوى المريرة أضلُعه المسجدُ الأقصى أجئت تزوره ... أم جئت من قبل الضياع تودِّعه إنه عتاب شديد وتحذير عظيم بل وإلقاء مسؤولية ما يحدق بالأقصى من أخطار على من تولوا أمور المسلمين: سل سادني الأقصى أقومٌ مجمعٌ ... في الحرب أم متنافرٌ لا تجمعه سل سادني الأقصى أيُعهد لامرئٍ ... عهد أمام الله ثم يضيعه؟! وفي مشهد آخر من المشاهد الشعرية المتعلقة بالأقصى نجد الشاعر برهان الدين العبوشي الذي نظم قبل وبعد نكبة 1948م كان يخاطب أبناء القدس عموماً وأطفالها المجاهدين خصوصاً أن يواجهوا الأذى ويحتملوا الصعاب وكأنه يعيش انتفاضة الأقصى هذه الأيام: يا فتى القدس أُصمدْ للأذى ... كُن حديداً حامياً قلباً ويدْ واحمل النفسَ على الصبِر فما ... ينفعُ البأسُ إذا الصبرُ نَفدْ هكذا الدنيا عراكٌ فاحتمل ... ألُم الجرح ومن يصبر يَسُدْ واحتفظ بالسيفِ لا تُلقِ به ... فيه تأخذُ حقاً قد وُئِدْ وكأنني بهؤلاء الفتية الأبطال ووصايا الشاعر لهم يردد لسان حالهم وما أجمل حالهم قول شاعر النكبة عبد الكريم الكرمي "أبو سلمى": كٌلَّما حاربتُ من أجلكِ أحببتكِ أكثَرْ كلما دافعتُ عن أرضك عودُ العمر يخضرْ وجناحي يا "فلسطينُ" على القمَّةِ يُنشَرْ إنه كلما قدّم البذل والتضحية من أجلها أحبها أكثر، كيف لا وهي هويته التي لا تتغير، وكيف يتركها هي ماضيه وحاضره ومستقبله تاريخاً وحضارة وعطاء وانتماء... هذه المعاني أعلنها بشكل صريح الشاعر هارون هاشم رشيد منذ بداية قصيدته: أجلْ إنِّي من القدسِ ... وفيها قد نما غرسي ويواصل حديثه المتدفق عنها بلا انقطاع، المنساب بعذوبةٍ دون أن يعيقه حاجز: أنا أعطيتها عمري ...فداً أسكنتها حسّي أنا منها وإن غَرِقَت...ببحر الهمِّ والبؤسِ ويصدح بعدها بكل فخر وشوق يحكي لنا عن محبوبته: وكم في خاطر التاريخِ من قولٍ ومن حدْسِ عن القدسِ وهل أسمى وهل أزهى من القدسِ؟! وعاد الأقصى في انتفاضة عام 1987م إلى الشعر بقوة قمراً يحلق ويضيء في ليل الأمة الداجي، يُلبي نداءه الشاعر مصطفى عكرمة بكل الحنين والشوق والعزيمة: لبيك يا أيها الأقصى وألف ردى ... لكل من سرَّه ألا يكون فدى لبيك حتى يموت الموت في دمنا ... ويستحيل رماداً مَن بنا جحدا ومن حضن الرماد ومرور الشاعر بحال المسجد الأقصى الحزين ينتفض الحجر المقدسي في قصيدة د.عبد الرحمن العشماوي دفاعاً عن حلم المسجد وفضاء القدس المضمخ بالطهارة، أعلنها في شموخه الذي في زمن الانكسار على لسان طفل الحجارة: أنا من ربوعِ القدسِ طفلٌ فارس ... أنا مؤمن بمبادئي أنا مسلمُ ناديت قومي والرياحُ عنيفةٌ ...والصمتُ كهفٌ والظلام مخيِّمُ ومضيتُ وحدي في دروب عزيمتي ... إنَّ المجاهدَ حين يصدقُ يعزمُ سكت الرصاص فيا حجارة حدثي...إنَّ العقيدةَ قوةٌ لا تُهزَمُ الحديث عن الأقصى طويل ذو شجون وحنين، والشعر حافل بالكثير من الحكايات عن المسجد بانتفاضاته وجراحه وذكرياته، وهنا نختتم هذه السطور بشيء من الذكريات الشعرية للدكتور محمد صيام الذي عاش فترة مقدسية من عمره في أحضان المسجد الحبيب وهناك عاد إلى الحنين المطرز بالإباء: وأجلتُ في الأقصى النواظرَ من شمال أو يمينْ فرأيتُه - رغم الأسى - كالطود مرفوع الجبينْ فالسورُ تقرأُ فيه أخبارَ الجدود الغابرينْ وله محاريب تثيُر كوامنَ الشَّجنِ الدفينْ ومآذنٌ تَطأُ الغمامَ وتستحِثُّ المنقِذينْ |